المجتمع الإسلامي و الغرب
"تعرّض التاريخ العُثماني للإهمال بوجه عام حتى النّصف الأول من القرن العشرين، فقد تأثر الكتّاب الاوروبيون بإتجاهات معاصريهم من الدّولة العُثمانية التي ظلّت تشكّل بالنسبة إلى أوروبا لمدّة سنة قرون مشكلة كبرى: فهي في بادئ الأمر كانت تمثل ردّ الفعل الإسلامي ضد الخطر الصّليبي، ثم ما لبثت أن اعترضت المشروعات الإستعمارية الأوروبيّة، وحين ضعفت أثارت ما عُرف في المصطلح السّياسي بإسم "المسألة الشّرقية"، التي شغلت أذهان الأوروبيين، ولم يُسدل عليها السّتار إلا بإنهيار الإمبراطورية العُثمانية. بيد أنّ الإهتمام بالوثائق العُثمانية ودراستها قد عدّلا النّظرة إلى التّاريخ العُثماني خلال العقود الأخيرة، وأضحى التّاريخ العُثماني المحور المفضَّل لأقسام الدّراسات الشّرقية في جامعات أوروبا وأميركا، وأصبح بالإمكان وضعه في مكانته الصّحيحة في إطار التّاريخ العالمي: إذ أنّ الدّولة العُثمانية قد ظهرت في ثنايا ردّ الفعل الإسلامي إزاء أوروبا الآخذة في التّوسّع في شرقي البحر المتوسط بالقرنين الرّابع عشر والخامس عشر، وهي تثمل أقوى وأنجح مقاومة لأوروبا من جانب المشرق، كما أنها لعبت دورها في تكوين ما نطلق عليه اسم أوروبا الحديثة، وفي إعادة تشكيل مجتمعات جنوب شرقي أوروبا والشّرق الأوسط وشمال أفريقيا. يمثل هذا المؤلف نموذجاً رائعاً نادراً للبحث العلمي الموضوعي الجاد الشامل، ومؤلف الكتاب اثنان من أشهر المستشرقين في هذا القرن، بل أن أحدهما وهو المستر جيب أشهر مستشرق بريطاني ظهر حتى اليوم، وكأن قد عهد إلى المؤلفين بدراسة أثر الأفكار الغربية على المجتمع الإسلامي في الامبراطورية العثمانية، فأقبلا على مهمتها بهمة ونشاط لا مثيل لهما، وجعلا خطة بحثهما أن يبتدئا بمسح الأوضاع في الامبراطورية العثمانية قبل تسرب الآثار الأوربية إليها، ثم هذه الآراء في تغيير الأوضاع أو تطويرها. وجدوا منتصف القرن الثامن عشر تاريخاً لبدء تسرب الآراء الأوربية إلى المجتمع الإسلامي ولذلك انصرفا في القسمين الأولين من الجزء الأول من كتابهما هذا وإلى مسح وتصوير الأوضاع قبل ذلك التاريخ. ولأهمية هذا الكتاب، ونفاسة ما يزخر به من معلومات ولمنزلة مؤلفيه، فقد تمت ترجمته لينتفع منه القراء العرب. وليس هذا فحسب، بل لأن هذا الكتاب يتتبع نشأة الأنظمة والأفكار في الامبراطورية العثمانية وطرق انتشارها، ولأن الدولة العثمانية أورثتنا هذه الأنظمة والقيم والأفكار بكل حسناتها ومساوئها، ولأنها أثرت وما تزال تؤثر في كياننا أبلغ تأثير، فلهذا يمكن اعتبار الكتاب تمهيداً ضرورياً لأي بحث علمي يتناول أصول الأوضاع العربية الحاضرة ونشأتها وتطورها."