الاتفاقيات المعقودة لدى مكاتب الإصلاح والتوفيق الأسري

الاتفاقيات المعقودة لدى مكاتب الإصلاح والتوفيق الأسري أنواعها وتكييفها وحجيتها

الحمد لله الذي قسم فأقسط، وحكم فعدل، والصلاة والسلام على من أرسل بالهدى ودين الحق، أما بعد: فإن من الأصول التي قام عليها التشريع الإسلامي تحقيق المصلحة في الحال والمآل، وقد سنَّ الله عز وجل من السَّنَنِ والأحكام ما يحقق هذه المصلحة، بل إن كل أصل لم يشهد له النص، وكان ملائماً لنهج المشرع، ومأخوذاً معناه من الأدلة النصية، صار بمجموع الأدلة مقطوعاً به، بل ويرجع إليه في الاستدلال، كما ذكر الإمام الشاطبي في موافقاته([1]). ومن نهج المشرع أن سنّ من الأحكام الشرعية ما فيه مظنة تحقيق العدل بين الأفراد، ومن التدابير الشرعية التي فيها مظنة تحقيق القسط بين الناس الوفاء بالعقود، إذ يقول عز من قائل في مستهل سورة المائدة: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِۚ" [المائدة: 1]، والتعريف في العقود تعريف الجنس للاستغراق، فكان المفهوم شاملاً العقود التي عاقد المسلمون عليها ربهم بالامتثال لشرعه، والعقود بين المسلمين وغير المسلمين، وكذلك العقود بين المسلمين بعضهم بعضاً([2])، وانطلاقاً من هذا الأصل، فإن القيام بالقسط يلزم منه الحرص على الوفاء بالالتزامات والاتفاقيات ما لم تخالف أصلاً أو نصاً شرعياً. وتأسيساً على ما تقدم، ومن مظنة تحقيق المصلحة، فقد أنشئت مكاتب الإصلاح والوساطة والتوفيق الأسري، انطلاقاً من فكرة أن صلاح المجتمع يأتي من صلاح أفراده المتأتي من استقرار الأسر وصلاحها، وقد تم إقرار نظام مكاتب الإصلاح والوساطة والتوفيق الأسري([3]) سنداً لنص المادة (11) من قانون أصول المحاكمات الشرعية الأردني([4])، والتي تهدف إلى الإرشاد الأسري الوقائي والعلاجي لمعالجة الخلافات الأسرية والمنازعات بشكل ودي رضائي. وحقيقة الالتزام بالإسلام بوجه عام وإن انطلق من العقيدة كأساس، إلا أن هذه العقيدة ليست عنصراً روحياً محضاً منفصلاً عن واقع الحياة، وإنما هو مفهوم متسع يشمل مبادئ التكليف، بحيث إن الأصل أن يؤول كافة الوجود الحيوي للإنسان إلى عبادةـ وهذا مبدأ أصّلَ لكافة الحقوق والحريات([5])، وعليه فإن كافة تعاملات المسلمين والتزامهم بالتكاليف الشرعية، والتزامهم تجاه بعضهم بعضاً عملاً بمقتضى النصوص الشرعية يصب كله في مفهوم العبادة. وهذه الدراسة تبين تكييف الاتفاقيات المنظمة لدى مكاتب الإصلاح والوساطة والتوفيق الأسري، وأنواعها، وتأصيلها، وبيان حجيتها، وطرق الطعن التي ترد عليها، ومدى إلزامها، وآلية تنظيمها، والحيل التي قد ترد عليها، وعيوب الإرادة التي قد تلحق بها، والحقوق التي يجوز التنازل عنها، وما لا يجوز التنازل فيه، وحدود تدخل النيابة العامة فيما يتعلق بحقوق القاصرين المنظمة بموجب الاتفاقيات وآلية هذا التدخل، إلى غيرها من الأمور المتعلقة بهذا الجانب على ما سيأتي تفصيله خلال هذه الخطة. مشكلة الدراسة: تعالج الدراسة مشكلة التأصيل الفقهي والقانوني للاتفاقيات المبرمة بين أطرافها في الحدود التي تختص بها المحاكم الشرعية الأردنية، بحيث يخرج بهذا القيد الاتفاقيات الدولية، وبيان يترتب على هذا التكييف من أثر قانوني عند التطبيق العملي، على اختلاف أنواع هذه الاتفاقيات، ومن الأسئلة التي تهدف هذه الدراسة للإجابة عليها ما يلي: 1- ما التكييف الفقهي والقانوني للاتفاقيات المنظمة لدى مكاتب الإصلاح والوساطة والتوفيق الأسري في الأردن؟ 2- ما حجية هذه الاتفاقيات؟ 3- ما وجه الاختلاف بين الاتفاقية والحكم القضائي وما أثر هذا الاختلاف من الناحية العملية؟ 4- ما هي طرق الطعن في الاتفاقيات المنظمة لدى مكاتب الإصلاح والوساطة والتوفيق الأسري وما آلية هذا الطعن؟ 5- ما الحقوق التي لا يجوز التنازل عنها؟ 6- ما صلاحية النيابة العامة الشرعية في التدخل في الحقوق المتعلقة بالقاصرين المنظمة بوجب اتفاقية؟ 7- ما حدود اختصاص قاضي الإصلاح الأسري عند تنظيم الاتفاقية؟ أهمية الدراسة: يمكن تقسيم أهمية الدراسة إلى جانبين: نظري وعملي. فمن الناحية النظرية فإن هذه الدراسة مختصة ببيان ما يتعلق بالاتفاقيات المنظمة لدى المحاكم الشرعية تأصيلاً وتنظيماً، وعليه فإنه يؤمل أن تخدم الباحثين الأكاديميين المهتمين ببحث التكييف القانوني والتأصيل الفقهي للاتفاقيات، وأنواعها وحجيتها وطرق الطعن فيها. وفي الجانب العملي فإنه يؤمل من هذه الدراسة أن تخدم العاملين في المجال القانوني عموماً، كما إن المواضيع التي ستبحث في هذه الدارسة يؤمل منها أن تخدم العاملين في مكاتب الإصلاح الأسري التابعة لدائرة قاضي القضاة. ويؤمل كذلك من هذه الدراسة أن تكون ذات فائدة للقضاة الشرعيين؛ إذ إنها ستتناول حجية الاتفاقيات المبرمة على اختلاف أنواعها وطرق الطعن فيها، وذلك بالإضافة إلى المحامين والمستشارين أو العاملين في السلك القانوني كما أشرت. ([1]) الشاطبي، إبراهيم بن موسى، (ت790)، الموافقات، ط1، ج1، دار ابن عفان، المملكة العربية السعودية، ص32. ([2]) ابن عاشور، محمد الطاهر، (ت 1393 هـ)، تفسير التحرير والتنوير، ط1، ج6، الدار التونسية للنشر، تونس، 1984م، ص74. ([3]) نظام رقم (17) لسنة 2013 نظام مكاتب الإصلاح والتوفيق الأسري المنشور في عدد الجريدة الرسمية رقم (5209) تاريخ 28/02/2013م. ([4]) قانون أصول المحاكمات الشرعية رقم (31) لسنة 1959 وتعديلاته والمنشور في عدد الجريدة الرسمية رقم (1449) تاريخ 1/ 1/ 1959م. ([5]) الدريني، فتحي، خصائص التشريع الإسلامي في السياسة والحكم، ط2، مؤسسة الرسالة، بيروت، 2013م، ص5. 
Sign up to use